Monday, July 29, 2019

يقول عبد المجيد مسترخيا وفخورا بابنتيه وهما تتقافزان عليه

فما إن يتم رفع هيكل الجمجمة إلا وتنزف البنتان. لقد وجد الأطباء أن جلطات تكونت بعد العملية الأخيرة بأوردة عنق صفا لتحول دون سريان الدم من المخ باتجاه القلب فينساب بدلا من ذلك لمروة ليرتفع ضغط دم إحدى التوأمين بشكل خطير بينما يتدنى ضغط الأخرى بما لا يقل خطورة.
في تلك الأثناء يكافح أطباء التخدير للإبقاء على الحالة مستقرة.
يسود الصمت فجأة بالغرفة بينما تشخص الأعين إلى الشاشات ولا يُسمع إلا الصوت المتسارع لمنبه تتبع ضربات القلب.
ولكن الأزمة تمر إلا أن عواقبها ستكون خطيرة.
بات واضحا للجراحين أن مروة هي التوأم الأضعف، فقرروا منحها وريدا مشتركا رئيسيا على أمل زيادة فرصها في النجاة.
إنه قرار صعب إذ يدرك جيلاني أنه قد يحمل تبعات خطيرة لصفا، وهي الأقوى حتى الآن.
ولكن الرأي يستقر على أنه القرار الصائب، وتستمر العملية لأكثر من 20 ساعة تستنفد قوى جيلاني الذي يسلم الراية لجراح التجميل جولينغ أونغ لسد الجروح.
لم يبرح الجراحون صالة العمليات قبل السادسة والنصف صباح اليوم التالي.
يقول: "ظننت أن صفا ستموت!" متذكرا كيف انهار على أرضية مطبخه وأجهش بالبكاء مع إرهاقه وحرمانه من النوم.
"مسكينة زوجتي، لم ترني أبدا بهذا الشكل من قبل، ناولتني الهاتف لاتصل بديفيد".
"فقد استثمرت الكثير في هذه الحالة، وأشعر بالارهاق الجسدي في هذه المرحلة، فلم يتبق لي شيء من الطاقة وأصبح من الصعب السيطرة على العواطف".
عاد الجراحان للعناية المركزة ليفحصا صور الأشعة المقطعية لصفا. وقع ما كانا يخشياه، أصيبت بسكتة دماغية في الجزء الذي أخذوا منه الوريد الرئيسي لمروة.
خلال اليومين التاليين بقيت صفا في حالة حرجة.
بينما لم تجد زينب وأخوها وجد البنتين إلا الدعاء بجوار البنتين.
أخيرا بدأت بوادر تحسن تطرأ على صفا. لم تعد البنتان بحاجة لجهاز التنفس الصناعي، فتنفس الجراحون الصعداء.
ولكن السكتة تركت ذراع صفا وساقها اليسرى واهنتين. أحس جيلاني بالذنب، وقال "الحدث الأعظم بالنسبة لي سيكون عندما تكون قادرة على المشي وعندما تستخدم ذراعها الأيمن لأنني أعلم أنني سبب هذا الضعف".
ليس سهلا تحويل جزء تشريحي مجوف أنبوبي مشترك إلى رأسين طبيعيين مستديرين، إذ لا يتوفر ما يكفي من جلد وعظم لتغطية هامة رأسيهما بعد الانفصال.
يناير/كانون الثاني 2019، قبل أسبوعين من الفصل النهائي. يجلس جراحا التجميل ديفيد داناواي وجولينغ أونغ إلى جانب البنتين محاولين حل جانب من المشكلة، وهو الجلد اللازم لتغطية الرأسين عند فصلهما.
قبل أسبوعين وضع الجراحان كيسين بلاستيكيين صغيرين تحت جلد الجبهة ومؤخرة الجمجمة المشتركة وبدت المنطقتين متورمتين بشكل غريب.
يعمل الكيسان على شد الأنسجة وتوسيع رقعتها لتشجيع نمو الجلد.
يشرح داناواي بالقول: "ثمة فتحة دقيقة متصلة بالكيسين لحقن سائل ملحي لنفخ الكيسين تدريجيا كالبالون لمط الجلد فوقهما" على أمل أن يتوفر ما يكفي من جلد لتغطية هامتي البنتين بعد ستة أسابيع .
يقر داناواي بصعوبة الشهرين الماضيين.
، إذ عانتا من التهابات وارتفاع في درجات الحرارة، بينما يتحمل قلب مروة عبئا عنها وعن أختها. ولكن رغم هذه الصعوبات فإن حالتهما ليست سيئة.
يحقن ديفيد داناواي كيسي الجلد بالمحلول المحلي، بينما الخطوة التالية للبنتين ستكون الانفصال. لأول مرة في حياتهما ستتمكن الواحدة من رؤية الأخرى.
تم تقديم موعد الانفصال بأربعة أسابيع لتخفيف الحمل عن قلب مروة الذي يواجه صعوبات. نحن الآن في فبراير/شباط 2019 أي بعد مرور أربعة أشهر من الجراحة الأولى.
في الساعات السبع المقبلة سيتم قطع ما تبقى من عظام وأنسجة مشتركة وفصل المخين فصلا كاملا باستثناء قطعة من غشاء "الأم الصلبة" المحيط بالمخ الصلة الوحيدة المتبقية بين الرأسين.
وأخيرا، يقطع الإتصال تماما بين التوأمين. يقترب عدد من أفراد الطاقم الجراحي لرفع الجسدين الصغيرين برفق وإبعاد أحدهما عن الآخر. لم تعد البنتان متصلتين.
يصف دوناواي تلك اللحظة بأنها "رائعة".
للمرة الأولى في سنتين هي عمرهما لا يعتمد بقاء الواحدة من الأختين على الأخرى، ما ييسر على طاقم التخدير تنظيم ضربات القلب لكلتيهما وكذلك ضغط الدم والإشارات الحيوية الأخرى.
يلزم الآن لكل من البنتين صالة عمليات خاصة بها. سيبقى نصف الطاقم الجراحي مع مروة تحت إمرة جيلاني وأونغ، بينما يقود داناواي النصف الثاني بغرفة مقابِلة لترميم جمجمة صفا.
ومع إعداد غرفتي العمليات للمرحلة الأخيرة، يتصافح الجراحان الرئيسيان ويتبادلان الابتسامة بأحد الأروقة خارج الغرفة.
أما جيلاني فيعلق قائلا: "فصلنا التوأمين وعلينا الآن أن نرمم رأسيهما".
لم يكن من سبيل للفصل دون إصلاح وضع المخين المشوهين.
وعلى مدار أربعة أشهر من تسليط ضغط خفيف، نجح الجراحون في القيام بأغلب المهمة حتى ولو ظل رأسا البنتين أطول قليلا من جهة الخلف. الآن لم يبق إلا الضغط على المخين اللينين نحو سنتيمترين للدخول بالكامل في تجويف كل جمجمة منفصلة.
يبدأ "فريق صفا" و"فريق مروة" العمل الترميمي الصعب المتمثل في اعادة بناء الجمجمتين.
يقول داناواي: "تتكون الجمجمة من ثلاث طبقات، الطبقة الداخلية والطبقة الخارجية من العظم الصلب السميك، أما الطبقة الوسطى فهشة قابلة للتقسيم، ورغم أن سمك هذه القطع لا يتجاوز نصف السمك الطبيعي إلا أننا معنيون بتغطية الرأسين بالكامل تقريبا بالعظام".
وبينما يُغلَف مخا البنتين بالغشاء الطبيعي المحكم، يتم ترقيع شرائح العظام لتلتئم معا فوق الرأسين المستديرين. وتثبت القطع في مكانها بخياطة مؤقتة خاصة لتشكل ما يشبه أرخبيل جزر من شظايا العظام.
ينثر الأطباء خلايا عظمية في الفراغات بين القِطع لتنمو في الأشهر المقبلة وتلتحم عظام الجمجمتين بالكامل.
المهمة الأخيرة هي بسط الجلد فوق الجمجمتين المرممتين. هناك ما يكفي بالكاد من الجلد. يهز دوناواي رأسه متعجبا: "إنه ليوم مدهش، أليس كذلك؟".
لا تتمالك الأم مشاعرها وتقبل يديه ويدي داناواي.
وبينما تمكث صفا ومروة في المستشفى في لندن للنقاهة، يتجه جيلاني وداناواي لأيرلندا لزيارة ريتال وريتاج التوأمين اللذين كانتا ملتصقتين بالرأس قبل فصلهما عام 2011 حين كان عمرهما 11 شهرا.
يشعر الطبيبان بالسعادة لرؤية البنتين لأول مرة في منزل الأسرة ببلدة كافان الأيرلندية، حيث يعمل والدهما عبد المجيد طبيب ولادة، وزوجته إيناس الحاصلة على إجازة العمل كطبيبة أمراض نفسية من السودان.
ترتدي ريتال وريتاج فستانين أحدهما أبيض والآخر وردي وستبلغان التاسعة من العمر في سبتمبر/أيلول وهما مفعمتان بالنشاط.
ولا يمكن الاستدلال على أن رأسيهما كانا يوما متصلين إلا بانبعاج قليل فيهما. تمد ريتاج يدها لمصافحة الجراحين كما يفعل الكبار دون أن تسعفها الكلمات لوصف ما تشعر به، وهو الأمر الغريب عليها كما يقول والداها، بينما توجه ريتال نظرها إلى الضيفين من وراء والدها.
كانت عملية الاختين ريتال وريتاج بين الأنجح لتوائم متصلين بالرأس، وقد ولدتا في السودان عام 2010 وجمعتهما جمجمة واحدة طويلة، ولكن بخلاف صفا ومروة لم يكن مخاهما مشوهين.
وصلت ريتال وريتاج لمستشفى غريت أورموند ستريت بعمر سبعة أشهر وكانت حالتهما متردية، كان قلب ريتال بحالة هبوط للجهد الزائد عليه، ودون عملية جراحية كان موت البنتين متوقعا.
جرت عملية فصل هاتين الطفلتين على أربع مراحل خلال ثلاثة أشهر ولم تمض أسابيع قليلة إلا وتحسنتا بوضوح ونقلتا إلى عنبر عام.
تعاني ريتال من درجة من درجات التوحد وتذهب لمدرسة متخصصة بينما تتطور ريتال بشكل عادي بالنسبة لعمرها الدراسي.
ترتبط البنتان بعلاقة وثيقة، ويقول الوالدان إن ريتاج هي "الزعيمة" التي تساعدهما على جعل ريتال تمتثل للأوامر

No comments:

Post a Comment